
أصدرت محكمة الحسابات الموريتانية تقريرها السنوي الجديد، لتُسدل الستار عن سنة مالية حبلى بالملاحظات، وتُعيد النقاش العام لحو معضلة مزمنة: الفساد وسوء التسيير في مؤسسات الدولة . وبينما تُبرز الأرقام والتوصيات مستوىً عالياً من الجرأة والاحتراف في التشخيص، يبقى السؤال الحقيقي في أذهان الموريتانيين: هل نحن أمام لحظة إصلاح حقيقية أم مجرد وثيقة أخرى سيتم القاؤها بعد حين في رفوف الأرشيف؟
فساد بنيوي وديون خانقة:
كشفت المحكمة عن اختلالات خطيرة في وزارات ومؤسسات حيوية، أبرزها وزارة الصحة وشركة الكهرباء "صوملك"، حيث وصفت الأخيرة بأنها "وكر للفساد"، مع ديون تضاعفت بشكل غير مسبوق، ومعدلات خطيرة لانخفاض رأس المال. في كشف التقرير أنه تم في قطاع المحروقات، صرف 85% من نفقات أحد الحسابات خارج إطاره القانوني، وذلك بمبالغ ضخمة تجاوزت 400 مليون أوقية جديدة.
ردود رسمية سريعة... لكن!
أظهرت الحكومة استجابة أولية مقبولة: من استقبال الرئيس للتقرير، إلى ترؤس الوزير الأول اجتماع متابعة، إلى تحرك لجنة المالية بالبرلمان. لكن لا تزال هذه التحركات في الإطار الإجرائي العام، ولم تُترجم بعد – كما هو مطلوب - إلى محاسبات فعلية أو إجراءات تأديبية واضحة ضد المتورطين، مما يهدد بتقويض مصداقية الإصلاح المعلن.
الرأي العام غاضب... والأحزاب تترقّب:
لم يتأخر رد فعل الأحزاب على التقرير، فقد بادرت بعضها بنشر بيانات حادة المطالب. حزب *"جود"* وصف التقرير بأنه كشف عن "حجم الانتشار المفزع للفساد في مختلف مؤسسات الدولة"، ودعا الرئيس والحكومة إلى تحمل مسؤولياتهما وتنفيذ إصلاحات عاجلة، مع متابعة المتورطين قانونيًا.
أما حزب *"تواصل"*، فاعتبر أن التقرير جاء متأخرًا لكنه أكد ما ظل الحزب يحذّر منه: تفشي الفساد وضعف الشفافية، مطالبًا بـ "فتح متابعات قضائية شفافة لتحديد المسؤوليات الفردية واسترداد أموال الشعب المنهوبة".
وفي ساحة موازية، رئيس حركة *"كفانا"* صرّح بأن التقرير لم يكشف إلا القليل من الفساد، وأنه يفترض أن تُصدر المحكمة تقريرًا سنويًا دائمًا، مشكّكًا في أن بعض الممارسات لم تُدرج رغم أهميتها.
بهذه التصريحات والمواقف، يُمكن القول إن التقرير أصبح مادة خام للصدام السياسي والمحاسبة، حيث تسعى الأحزاب إلى استثماره في تعزيز دورها الرقابي، بينما تحاول الحكومة أن تُظهِر التزامها بالإصلاح والتنفيذ العاجل.
تداعيات التقرير غير مسبوقة:
أثار تقرير محكمة الحسابات موجة من الغضب الشعبي، خصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث عبّر المواطنون عن استيائهم من استمرار نزيف المال العام دون عقاب واضح، في وقت تعاني فيه البلاد من اختلالات اقتصادية، وتراجع في الخدمات الأساسية. فيما ازدادت حدة النقد الشعبي مع ملاحظة أن بعض المؤسسات التي شملها التقرير تُعد من الأكثر استفادة من الدعم الحكومي، وبما يطرح تساؤلات عميقة حول جدوى الإنفاق العمومي وأولوياته.
أما القوى السياسية، فقد استغلت صدور التقرير لتجديد مطالبها بالشفافية والمحاسبة. حيث دعت أحزاب المعارضة إلى فتح تحقيقات قضائية عاجلة في التجاوزات، وربطها بمنظومة الإصلاح السياسي الشامل، بينما اكتفى بعض أطراف الموالاة بالمطالبة بـ"التصحيح الإداري" دون المساس بالأسماء أو المسؤولين المعنيين.
وفي هذا السياق، يُوقع أن يُوظَّف التقرير سياسياً خلال النقاشات البرلمانية القادمة، سواء من طرف المعارضة لكشف "مواطن الخلل البنيوي"، أو من طرف الحكومة لمحاولة إظهار إرادة الإصلاح وتعزيز صورتها أمام الرأي العام المحلي والدولي.
ولعل أبرز رد فعل من جهة الحكومة، يبقى يتمثل في أنها لم تكتفِ بالتعليق، بل تحرّكت فعليًا، حيث ترأس الوزير الأول المختار ولد إجاي اجتماعًا لمتابعة تنفيذ توصيات التقرير، كما ألزم الوزراء ومديري المؤسسات المعنية بإعداد خطط مفصلة وعقوبات فورية لمن تقع في نطاق صلاحياتهم، مما يبقى معه الجميع ينتظر الرؤوس التي سيطيح بها والأحكام التي ستصدر بحقها.





.jpg)